في بلادنا العزيزة كان تصميم المنزل وحتى عهد قريب لا يستغرق سوى سويعات ويتم في الهواء الطلق. المتعارف عليه أن
يتفق صاحب الأرض مع رئيس فرقة بناء يطلق عليه سابقا "استاد" على بناء منزله. في صبيحة يوم البدء في البناء يأتي "الاستاد" مع فرقته وصاحب المنزل مع بعض وجوه الحي ويبدأ "الاستاد" بعد معرفة المتطلبات والتشاور مع الحضور بتخطيط المنزل على الأرض وحفر الأساسات.
بالرغم من بساطة تصاميم المنازل القديمة الا أنها تتمتع بنظام متكامل تتوارثه الأجيال يعتمد على مواد بناء محلية من أحجار بحرية، وطين بحري وجص، وجذوع وأوراق النخيل والأشجار. قدمت أجيالنا الماضية معالجات بيئية ذكية أسهمت إلى حد كبير في خلق توافق بيئي بين المباني وما حولها. اهتم القدماء بتوجيهات المباني، واستخدام الأفنية الداخلية، والمشربيات، وملاقف الهواء، والعناية بأشكال وأحجام النوافذ والفتحات، واستعمال الحوائط السميكة، وجعل المباني متلاصقة ومتقاربة، إضافة إلى الاستفادة من النباتات في التكييف البيئي وتقليل وطأة الظروف المناخية. إن المزايا البيئية - الاقتصادية التي اتصفت بها عمارتنا المحلية سابقا هي تطبيقات مبكرة لمفهوم "العمارة المستدامة الخضراء" المطبقة حاليا في الدول الصناعية المتقدمة.
لا شك أن الوضع تغيير تماما وأصبح التصميم أكثر تعقيدا وبحاجة إلى موافقة رسمية ومكتب هندسي ومواد بناء متعددة ومعقدة من محلية ومستوردة. لقد مرت بلادنا بكثير من التغييرات الغير مدروسة منها استنساخنا لأفكار عمرانية دون النظر في مدى موائمتها لبيئتنا. بالرغم من الإمكانات العلمية إلا أن منازلنا الحديثة تفتقر إلى مقومات التوافق مع المحيط من حولها، فهي مكشوفه للخارج وللشمس، وفاقده للهوية التي عانى قدمائنا للوصول إليها. أصبح التركيز في منازلنا الحديثة على التوزيع الداخلي المريح والمنظر الخارجي الجميل ونسينا الجوهر.
نحن بحاجة إلى إعادة النظر في الأساليب الحالية للبناء من خلال الاستفادة من مفهوم "العمارة المستدامة الخضراء" والتي من أهم أهدافها توفير منازل مريحة وفق الإمكانات المادية المتاحة دون الأضرار بالبيئة سواء اثناء فترة الإنشاء او الاستخدام. من أهم الطرق المؤدية إلى ذلك هو التحول في مفاهيمنا في بناء المنازل إلى الصداقة مع البيئة من خلال تبني أفكار ودروس من العمارة التقليدية من منظور بيئي - اقتصادي ودراستها وتطويرها وتوظيفها في المباني الحديثة بما يتلاءم مع احتياجات العصر.
يعاني الكثير منا أثناء تصميم منازلهم، فالبعض يدفع مبالغ كبيرة لإحدى المكاتب الهندسية لقاء الحصول على تصميم لمنزله، ولكنه يفاجأ بعد شروعه في البناء، لضعف خبرته، بحجم المبنى الكبير، والفراغات الضائعة، والواجهات ذات التفاصيل المعقدة المكلفة عند الإنشاء والتشغيل والصيانة. البعض الآخر يبني منزلا من دور واحد حسب الإمكانات المتاحة "وهذا شيء جيد" لكنه ينسى أو يتغافل عن تصميم المنزل بطريقة تمكنه من التوسع بسهولة في المستقبل سواء أفقيا أو عموديا. يفاجأ هذا البعض عندما يذهب لمكتب هندسي لبناء دور علوي بأن تصميم سقف الدور الأرضي لا يتناسب مع رغباته في تصميم الدور العلوي من حيث مواقع الجسور أو قوتها وغير ذلك.
منزلي كيف أصممه سؤال يواجه الكثيرين، ما يجعله أكثر إلحاحا ارتفاع التكاليف بشكل غير مسبوق، واضطرار الكثيرين لإجراء تعديلات مكلفة في منازلهم لاحقا لاستيعاب اسر ابنائهم نتيجة الغلاء الفاحش للعقار وبالتالي الايجارات. أغلب الأسر تتجه لبناء منزل من دور أو دورين دون الأخذ في الاعتبار بان كل أسرة تمر بدورات حياتية تتغير على ضوئها متطلباتها في السكن. كل أسرة بحاجة في بدء نشأتها إلى منزل بسيط بعدد محدود من الغرف تتزايد مع قدوم الأطفال وتكاثر عددهم. بعد نضج الأطفال وزواجهم فإنهم يستقلون بعد تكوينهم لأسر جديدة وتبدأ حاجة الأسرة الأصلية للغرف تقل تدريجيا وربما تضطر، لظروف مادية أو غيرها، لفصل أقسام من المنزل لتوفير سكن مستقل للأسر الجديدة.
فيما يلي بعض الأفكار التي ينبغي مراعاتها عند تصميم أي منزل:
- أن يكون تصميم المنزل وفق المنظور المحتمل لنمو الأسرة وتطور احتياجاتها عبر الزمن. التنفيذ ربما يتم على مراحل وفق حاجة الأسرة في كل مرحلة.
- يوجد ثلاثي مهم في حياة الأسرة وهي غرف المعيشة والمطبخ والطعام كونها المكان الدائم اليومي للقاء أفراد الأسرة. يجب إعطاء أهمية بالغة لهذا الثلاثي من حيث الموقع والسعة والجودة واتصالها المباشر ببعض.
- في حال كون المنزل من دور واحد يتم اختيار أهدأ ركن في المنزل لغرف النوم مع مراعاة إمكان تحويلها بسهولة، قدر الإمكان، إلى استخدامات أخرى عند بناء دور علوي.
- عدم المبالغة في مساحات أقسام المنزل المختلفة مع محاولة تحديد بعض الأقسام للاستخدامات المتعددة حسب الحاجة.
- أصبح المجلس اقل استعمالا، بسبب التغيرات التي طرأت على المجتمع، لذا يكتفي بمجلس واحد معقول المساحة لاستقبال الضيوف واستعمال الصالة للنساء عند الضرورة.
- مراعاة سهولة تعديل التصميم بدون كلفة عالية عبر الدورة الحياتية للأسر بتنسيق مواقع الأعمدة والجدران الحاملة، قدر الإمكان، واستعمال فواصل سهلة الإزالة بين أقسام المنزل، واختيار مكان مناسب للدرج يسهل الوصول إليه من خارج المنزل. أيضا مراعاة امكانية تعديل الدور العلوي الى شقق منفصلة، عند الحاجة، لاستيعاب الأبناء بعد زواجهم مستقبلا بأقل تكلفة ممكنة.
- مراعاة قوة التربة المزمع البناء عليها وإجراء الاختبارات الضرورية لتحديد الأساسات المناسبة مع الاهتمام بمعالجة التربة وحماية الأساسات بالمواد العازلة.
- اختيار مواد بناء مناسبة لبيئتنا تشمل مواد العزل الحراري.
- عمل التصاميم بطريقة تسهل إجراء اعمال الصيانة اللاحقة بسهولة قدر الإمكان.
أختم مقالي هذا بالتأكيد على أهمية الدراسة المتأنية لتصميم المنازل خصوصا مع ارتفاع كلفة البناء الباهضة. دور المكتب الهندسي محوري في الشأن الفني، إلا ان دور صاحب المنزل هو أيضا محوري فهو أدرى باحتياجاته. التصميم المتميز بحاجة إلى صاحب منزل قادرا على تحديد متطلباته وإيصالها إلى المصمم، ومصمم قادر على تفهم حاجات صاحب المنزل ومناقشتها للوصول إلى تصميم عملي صديق للبيئة في حدود الامكانيات. الملاحظ ان كثيرين يحاولون ضغط ميزانية التصاميم ويستعجلون استكمالها مما يدخلهم في متاهات التغييرات المكلفة أثناء وبعد فترة البناء والنتيجة قد لا تكون مرضية لهم تماما. لاشك أن دفع مبالغ كبيرة للمكاتب الهندسية يتطلب في المقابل اهتمام اكبر من تلك المكاتب في اختيار المهندسين الأكفاء وبجودة العمل واتقانه.